كتب محمد ابو عبيد في هذا الاسبوع ما يؤلمه ويجرحه في عالمنا العربي الحبيب فكان هذا المقال
في العالم العربي يأتي جهد التفكير مضاعفاً , الجهد الأول يكمن في تشغيل العقل , والثاني في مواجهة اللاعقل المتمثل في طواغيت الكلمة ومَنْ والاهم , والذين ليس لدنهم مسعى غير جعل الآخرين لا يفكرون , أو في أحسن الأحوال يفكرون في نطاق محدود جداً يقل مساحةً عن زنزانة.
لعل الشواهد على ذلك كثيرة , وهي غير متمثلة فقط في أقبية السجون وغياهبها , فالسّجون العقلية أشد قبحاً وأكثر قمعاً من القضبان الحديدية . إن العقل العربي معتقل ٌ منذ عقود ,إنْ ليس قبل قرون, والأنكى هو أنه إذا انعدم وجود سجّان العقل , فإن صاحب العقل نفسه هو من يزج به في زنزانة , إما خوفاً من عاقبة نشاطه وتحرره , أو إيماناً منه أن ثمة شخصاً يفكر نيابة عنه فيعطيه هالة مقدسة حتى يصبح تابعاً له وكأنه يلج من جديد في عصر الظلام والأصنام وإنْ كانت أصناماً ناطقة .
ينشأ المرء العربي على معتقدات وعلى أمور تصل إلى حد الخرافات , ويكبُر وهو مؤمن أشد إيمان بها , من دون أن يسبر غورها ليعرف صوابها من خطئها , وقافزا فوق حقيقة أن الصواب والخطأ نسبيان وغير مطْلقين البتة . ولعل جل ما يعرفه هو أنّ فلاناً أفتى بكذا , أو أن فلاناً قال ذلك , وكأن ذاك الفلان هو الحقيقة المطْلقة التي لا يجوز التشكيك فيها ولا مسها , ويا ويل من فعل ذلك ! .
إن الوضع الفكري الراهن لدى العرب هو بمثابة حصار بالبوارج والمقاتلات والجدران الحديدية , ليس من العدو ,إنما من أبناء جلدتهم . فمن أراد أن يتحرر من تبعيّة الصنم البشري , ويسعى أن يكون حراً طليقاً في فكره وتعبيره , تصدمه بوارج الإرهاب الفكري , ومقاتلات المنابر العنكبوتية التي في حقيقتها أوهن من بيت العنكبوت , فيتلقى سيلاً عرمرماً من الإتهامات والإفك والتكفير والتخوين والشتائم ,بحجم كرم العرب بالموائد والولائم , إلى حد الإيذاء الجسدي .
هذا الحصار الفكري , نجم عنه أحكام إعدام لكتب ومؤلفات وإبداعات فنية ,وإيذاء جسدي ولفظي بحق أصحابها , وما يجعل المصيبة أعظم , هرولة أعداد كبيرة من العرب نحو تأييد مثل تلك الأحكام الجائرة التي تضع العرب في خانة التخلف الفكري وديكتاتورية الكلمة , بدلاً من الانتفاض بقضهم وقضيضهم ضد هذا القمع وكبت الحريات . إنّ كثيراً من العرب ينتفضون ضد مقال أو لوحة فنية , ولا يراهم المرء منتفضين بنشاطهم ,الباعث على الحسد, ضد جندي احتلال يعتدي على امرأة أو يقتلع شجرة موغلة بجذورها في تاريخ الحق , لأن عقولهم ببساطة اقتُلعت من جذورها وسُجّيت على أسرّة الموت الإكلينيكي.
في ظل هذا المشهد , يمسى عقل الحر كالكاميكازي الياباني الذي لم يجد غير الإقلاع بطائرته الحربية لصدمها ببوارج العدو . هكذا هو حال المثقف العربي , مع فارق أنه لا يريد الانتحار ولا التهلكة , لكنه يسعى إلى إنقاذ العقل من الانتحار الفكري , وإنقاذ الأفراد من تهلكة التبعية العمياء , فيظهر كما لو شاء لنفسه انتحارها . فعلى المثقف العربي إما أنْ ينتظر إعصار الروح المقدسة حتى تهزم المغول الجدد من العرب , أو أن يكون هو الإعصار فلا يخشى المغول ولا غولَهم .