التصنيفات
القصص والروايات

خيوط الفجر

خيوط الفجر

هناك على أرض فلسطين الحبيبة بيت أوشك على السقوط كأنه عجوز تحكي قصة أبطالها الصغار ، وعند بابه جلس شيخ عجوز قد انتشر في رأسه الشيبٌ .. كان يدقق في كل المارين باحثاً عن شيء يريده ، ولكن عيناه التي أرهقهما النظر تعود بالدمع الغزير فيجري على وجهه ، ثم لا يلبث أن يمسح دموعه ويفتح رسالةابنه.. ليقرأها :
والدي الحبيب.. إننا جميعاً نعيش في ظروف أوجد ها الاعتداء الذي انتشر في بلدنا الحبيب ، الذي ربيتني على حبه وأن أفديه بكل غالٍ لد ي هذا هو ما علمتني إياه ولذالك أحس أني مقصر في حقه لأنك أنت يا أبي أقصى ما تستطيعه هو التمسك بأرضك ومنع أعدائنا من دخولها أما أنا فإني أستطيع أكثر من ذلك.. أستطيع أن أجاهد في سبيل الله لاستعادة حقنا. أبي.. أعلم أن ذلك صعب عليك أنت وأمي الغالية ولكن علينا أن نجند أنفسنا لخدمة ديننا متناسين ألامنا!.. ولا تنسني من صالح دعائك، إلى أن أعود من رحلتي التي ستستغرق أسبوعاً أو أكثر..
عندما انتهى العم صابر من قراءة الرسالة تذكر صورة ابنه محمد ، ذي الشعر الأسود الناعم والعينان الخضراوان ، ، ورفع يد يه داعياً بصوت ضارع له ولإخوانه المجاهدين..
دخلت أم محمد ، لكن العم صابر مد إليها يدا ترتجف وسلمها الورقة التي علمت منها كل شيء ، وهكذا وضع محمد والده ووالدته أمام الأمر الواقع ، تاركاً إياهم ينتظرون عودته على أحر من الجمر..
مر على هذه الحادثة شهر ، ظل فيها الوالدان ينتظران عودة الابن ، وذات ليلة ، طرق بابهم في منتصف الليل رجلٌ ملثم غطى جميع وجهه فلم تبد منه إلا فتحتين صغيرتين تبرق منهما عينان تفيضان بالشوق والحب الدائم .. وعندما فتح أبو محمد الباب وجد أمامه رجلاً غريباً جزم أنه لم يره من قبل فراعه ذلك وظن أن ابنه قد أصيب أو استشهد ، وأخذ يفكر كيف سيخبر زوجته وماذا سيقول لها ، وكيف سيخفف الأمر عليها. ولكنه فوجئ بصوت حبيب ومألوف إلى قلبه وكاد قلبه أن يتوقف مع توقف نفسه . لم يصدق العم صابر ما سمع وظن أنه في منام أو في أوهام.. إنه صوت.. صوت محمد يا للهول أحقاً إنه صوت محمد؟ وأيقظه محمد من تفكيره وشروده وهو يقول له: ألم تعرفني يا والدي العزيز أنا محمد؟؟ عندها انهمرت دموع الأب وما عاد يملك إيقافها وتجمد من هول المفاجأة ، فإذا بابنه يعود فينتشله من عالمه : أبي أنا محمد..وضم العم صابر ابنه إلى صدره ونادى زوجته لترى ابنها وقرة عينها يعود سليماً معافى ، ودخل محمد المنزل وسط فرحة الوالدين وشكرهما لله ، وما إن استقر به المجلس حتى ظهرت علائم القلق على وجهه ، واستفسر الوالدان عما يجول في خاطر الابن الغالي فأجابهما:إني مطارد ، وطلب منهما ألّا يخبرا أحدا بوجوده وعودته ، وهنا رأى الأب أن يأوي الابن إلى فراشه لأن وراءه ما ينتظره في الغد..
ومع إطلالة أول ط®ظٹظˆط· الصباح وبينما كانا عائدين من صلاة ط§ظ„ظپط¬ط± هو وابنه ، إذ بالجنود يقفون بباب منزلهم وتقدم الضابط الإسرائيلي – المعروف في المنطقة بمنظره الكريه الذي يبعث على الاشمئزاز ، وعينيه الضيقتين الماكرتين ، ورائحة الخمر الكريهة التي تنبعث منه ، ولباسه وأسلحته التي تدجج بها هو وجنوده ، والتي تدل على الخوف الذي يعيشون فيه – وسأل الابن هل أنت محمد؟ فأجابه بكل ثقة: نعم ، ولم يكد محمد يتم كلمته حتى انهمر عليه الجنود ضرباً ولكماً بأعقاب بنادقهم إلى أن سالت منه الدماء ، وما إن حاول والده الاعتراض ضُرِبَ هو أيضاً ضربةً أوقعته أرضاً وهو يئن ويقول: أما آن لكم أن ترحموا شيخاً كبيراً في مثل عمري؟؟ ثم أمر الضابط الجنود بسحب محمد إلى السيارة ، وصاح بالشيخ مستهزئاً: اطمئن سيعود لك ابنك سليماً ، ليس عليك إلا أن تدعو ربك عله يفرج عنك كما تَدَّعُونَ يا أغبياء..
وانطلقت السيارة مسرعة ، فعلا غبارها وجه الشيخ الذي أخذ يقول : حسبي الله ونعم الوكيل ، ثم تحامل على نفسه واتجه إلى منزله..
عندما شعرت أم محمد بتأخر ابنها وزوجها صعدت إلى سطح منزلها تنتظرهما ، ولم تمض فترة قصيرة حتى جمدت في مكانها عندما رأت زوجها ورأت شكله وهيأته فأسرعت بالنزول وفتحت له الباب وساعدته في الدخول وضمدت له جراحه وهو يحدثها عمّّا حصل ، فتحدرت دمعتين ساخنتين على خديها ورددت : حسبي الله ونعم الوكيل.. نظر صابر إلى زوجته ، لقد تغيرت أم محمد كثيراً ، وعقد مقارنة بين حالها عندما رأت رسالة ولدها وعندما سمعت نبأ اعتقاله وتبسم.. لقد كبرت في عينه كثيراً ، ونسي جرحه وهو يتمتم سعيداً : لقد أصبحت من نساء فلسطين..
قصد الرجل العجوز وهو متكئ على عصاه المسجد الذي يجلس فيه شيخه الفاضل الشيخ عز الدين ذاك الشيخ صاحب الوجه الأبيض الذي يشع نوراً ، وعيناه السوداوان اللتان تشعران بالراحة والطمأنينة ، فدخل وسلم عليه ، وأخبره بعينين دامعتين بما جرى لابنه ، فواساه الشيخ وقال له مشجعاً: عليك أن تعمل بكل وسيلة لكي تخفف عنه العذاب ، فقام من عنده متوجهاً إلى أحد أصدقاءه الوجهاء وحدثه بما جرى ، فطمأن خاطره وخرج معه فوراً إلى المقر الحكومي ، وأبو محمد ينتظره بالخارج ، ثم عاد إليه صديقه قائلاً لقد استطعت أن أقنعهم بأن لا يقتلوه ولكنهم أصروا أن.. -وسكت محرجاً-.. فقال له مستحثاً على الكلام: أن ماذا ؟؟ تكلم فإن أهم ما عندي ألّا يموت ولدي.. فتشجع قائلاً : أن تخرجوا من البلاد غداً.. ثم مضى وتركه لقد كان يعلم كم يحب أبو محمد أرضه وأنه ليس من الممكن أن يتخلى عن شبر منها ، فكيف به وهو يخرج من بلاده خروجاً نهائياً..وهكذا مضى أبو محمد نحو بيته وقلبه وخواطره تحترق فهل من الممكن أن يترك الأرض التي أحبها و عاش على تربتها؟؟ وفي طريقه مر على شيخه وأخبره بما جرى معه ، فهون عليه وقال له: قال ابن تيمية : ما يفعل أعدائي بي.. إن سجني خلوة ، وقتلي شهادة ، ونفيي سياحة ..
وصل أبو محمد إلى منزله وأخبر زوجته بما حصل له ، ثم قال بإصرار : لسوف نعود يوماً إلى أرضنا الحبيبة ، فأشاحت أم محمد عنه بوجهها وهي تعض على شفتيها ألماً على ترك وطنها الحبيب..
خرج الابن من قيد السجن ليدخل في قيد آخر وسجن آخر.. وهكذا تهيأت هذه الأسرة الصغيرة للرحيل ، ولما جاء ذلك اليوم الحزين جاء الجميع ليودعوا العجوز وزوجته و ابنهما ، وانهمرت الدموع من أعينهم وهم ينتزعون كل خطوة من الأرض انتزاعاً ، ويتذكرون معها قصصهم وذكرياتهم وأفراحهم وآلامهم ، ولما وصلوا إلى حدود هذا الوطن الغالي وقف العجوز يودع الأرض التي صاحبته 50 عاماً ، يودع سهولها وجبالها ، أشجار زيتونها الخضراء وبيوتها وأزقتها القديمة ، مسجد الأقصى الحبيب الذي مُنِعَ من الصلاة فيه ، وتدحرجت دمعة من عينه ، فسحبه ابنه برفق وقال له : تحمل يا أبت الغالي تحمل ، فسوف نعود يوماً بإذن الله ..
وهكذا آل حال الأسرة إلى العيش في الأردن وتزوج الابن وعاش حياة هانئة ، وكاد الجميع أن ينسوا وطنهم الحبيب وهذا ما كان يؤرق خاطر العم صابر حيث كان يشعر أن عودته إلى وطنه أصبحت شبه مستحيلة خصوصاً بعدما تزوج ولده وأنجب الأبناء ، كان سعيداً بأحفاده ، ولكنه كان يكره أن يرى أحفاده لا يتحدثون عن وطنهم إلا قليلاً وهكذا عزم أن يحدثهم كل يوم عن وطنهم قصصاً يتشوقون لسماعها علهم يشعرون بالحنين نحو وطنهم ، وما إن يحدثهم حتى تطفر الدموع من عيونهم ويبدو التأثر على وجوههم ، وكان هذا أروع ما يراه الجد على أحفاده ، وذات مرة قال له أحدهم : جدي اشتري لي سيفاً .. فقال له : لماذا؟؟ فأجابه بكل براءة وهو يلوح بيده: أريد أن أقاتل اليهود المحتلين في بلدي ، حينها.. ضحك الجد كما لم يضحك من قبل ووعده بأن يشتري له ما أراد..
وتمر الأيام سراعاً على الجد وهو يرى كل يوم المآسي الفلسطينية في التلفاز فيتقطع قلبه ألماً وحسرةً على حالهم ، ويود لو يستطيع أن يقف معهم .. ولكنه كبر وشاخ ولم يعد يستطيع فعل شيء .. وذات يوم جاء حفيده عصام -وكان ببشرته السمراء وشعره المتجعد وعيناه اللتان تبرقان بشيء لا أحد يدري كنهه أقرب أحفاده إلى قلبه- جاء إلى والده واستسمحه أن يذهب في رحلة مع أصدقاءه فأذن له ، تمنى الجد حينها لو أنه طلب منه أن يذهب في رحلة للجهاد بدلاً من هذه الرحلة للتسلية وعادت ذاكرته إلى الوراء وتذكر عندما خرج محمد ليجاهد ، كان في نفس عمر عصام ولكن..شتان بين الرحلتين .ولما استعد عصام للخروج توجه نحو جده وودعه وأخفى دمعةً لم يشعر بها أحد ، ومضى خارجاً بسرعة..
مر يومان على ذهاب عصام..وفي اليوم الثالث كانت الأسرة متحلقة حول المائدة وهي تشاهد التلفاز ، ظهر وميض في أسفل الشاشة لخبر عاجل عن عملية استشهادية ناجحة قام بها شاب يدعى عصام محمد صابر .. كانت مفاجأة للجميع وانحدرت دمعتان من عيني أبيه ، فما كان من الجد إلا أن ربت على كتفه –وهو يشعر بروح الأمل تخفق من جديد – قائلاً: لا تحزن.. هذه تباشير العودة تشرق مع خيوط الفجر القادم..

لقراءة ردود و اجابات الأعضاء على هذا الموضوع اضغط هنا
سبحان الله و بحمده

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.