كنت أطالع أحد الكتب ، في مكاني المعتاد من كل مساء ، الباب يفتح … أبني الكبير عاد من عمله … كان في وجهه ابتسامة رضا … سلم عليّ و جلس بجانبي …
قال : عندي لك خبر سار .
قلت : بشر بسرعة ما هو ؟
قال : لقد عقدنا أنا و أخوتي اليوم صفقة كبيرة ، أرباحها جيدة جداً …
قلت : الحمد لله ، هذا من فضل الله علينا .
قال : لقد اتفقنا أنا و أخوتي أن نخصص أرباح هذه الصفقة لزواج أخانا الأصغر ، فهل أنت راضي الآن ؟ هل تكتمل رسالتك بهذا ؟
أردف قائلاً : أنا و أخي الأوسط تزوجنا و عندنا بيوت ، و أخانا الأصغر بيته جاهز ، و لم يبقى ألا أن يتم زواجه
قلت : رسالتي ؟ أه من رسالة الوالدين …. إنها لا تنتهي أبداً …
و هنا بينما كان أبني يشرح تفاصيل الصفقة التي سيسلمها … و هو مسترسل بالكلام … عدت بذاكرتي إلى أكثر من عشرين عاماً مضت ، إلى ذلك اليوم الذي بدأت فيه الفكرة …
شعر أبني أني لست معه … تركني و ذهب ليسلم على والدته .
عدت أنا لأفكاري تلك ، و تلك الفكرة الرائعة التي غيرت حياتنا كلنا .
كان ذلك في أحد الأيام منذ أكثر من عشرين عاماً ، حيث عدت من العمل ، و كالعادة بعد العشاء ، أضع كاس الشاي ، و ط¹ظ„ط¨ط© السجائر ، و انفث في جو البيت سموم سجائري ، و لا أبالي … كانت آخر سيجارة من العلبة … فوراً فتحت العلبة الأخرى …
و إذ زوجتي تركض مسرعة و هي تبكي و تقول : تعال بسرعة و أنظر أبنك الصغير ما به … كان يسعل سعالاً شديداً … و بالكاد يتنفس … و بسرعة كنا خارج البيت في سيارة أجرة ، و عند الفحص في إحدى المشافي كان عنده مرض صدري خطير … و طُلب منا بقاءه لعدة أيام في المشفى … بقيت عنده والدته و رجعت أنا إلى البيت …
جلست مكاني … و أنا أحترق على هذا الصغير و سعاله و ألمه … مددت يدي لأشعل سيجارة … و مسكت علبة السجائر لأفتحها … شيء ما بداخلي جعلني أعيدها مكانها … … …
ألم تكن هي السبب في ما حل لولدي ، ليس ذلك فحسب ، فأنا طوال اليوم ألعن الساعة التي تعلمت بها عادة التدخين ، أحتقر نفسي عندما أدخن إلى جانب الحمام في عملي الذي منع فيه التدخين ، و أنا أرقب نظرات رب العمل لي بازدراء ، أخشى أن أقترب من أحد كي لا يشم رائحة فمي ، أفتح النوافذ في سيارة الأجرة كي لا يعبق جوها برائحة ملابسي ، لا أصلي و لا أسبح إلى بعد ربع ساعة كي أتأكد أنه لا رائحة في فمي ، منبوذ في كل مكان بسببها … عند الصباح ، أسعل سعال رجل في الثمانين من عمره … و فوق كل هذا ثمنها يزداد كل فترة … و تربحه الشركات العالمية التي تكبر و تطغى و نحن نخسر و نشقى … نعيش بربع رئة … نلهث لبضع درجات و نحن نصعد الدرج … و ناهيك عن كل ذلك ، فهناك من حرمها شرعاً … و مازالت قيد خلاف بين الأئمة …
ما هذا الكابوس الذي أنا فيه ؟ ألم يئن الأوان لترك هذا الإخطبوط الذي ينهش بجسدي ، و يلتف حول عنقي ، ليقضي علي ؟
و خطرت لي فكرة رائعة ، عبقرية كما يقال …
سوف أحول كل ذنب اقترفته بحق أولادي و نفسي إلى عمل صالح ، لماذا لا أدخر لأولادي مبلغ علبة السجائر ، و هنا جلبت الآلة الحاسبة و حسبت ثمن علبة سجائري ، و علبة سجائر زوجتي لمدة 20 عاماً كم يبلغ … و أفاجئ برقم خيالي .
فقررت أن أشتري حصالات لأولادي الثلاثة ، و أضع فيها ثمن علبتي السجائر يومياً ، إلى أن يصبح أعمار أولادي ست و عشرون سنة ، ووزعت المبلغ لكل ولد بما يناسب عمره و يحصل على نفس مبلغ أخوته …
فكان الولد الكبير عمره اثني عشر عام ، و الأوسط سبع سنوات ، و الصغير خمس سنوات
و بالإضافة لذلك كان هناك ، شرط لكسب أولادي المبلغ … و هو أن يصلي كل منهم الصلوات الخمس و أفهمتهم أن هذا المبلغ هو جائزة صلواتهم … و رضاي عليهم
قمت من مكاني و أخذت علبة السجائر و وضعتها في درج الطاولة و نويت أن احتفظ بهذه العلبة لأختبر إرادتي ، بعدم الأخذ منها
و فعلاً ، بعد شفاء أبني الصغير ، كان هناك الحصالات الثلاثة ، و كانت الفرحة تعم الأولاد الثلاثة عندما علموا أن كل منهم سيجمع مبلغاً ضخماً ، طبعاً بالنسبة لهم هو ثروة ، و باتوا يتراكضون للوضوء و الصلاة ، و أصبحنا نصلي جماعة ، و في النهار كان أبني الأكبر هو من يكون إماماً ، حتى أبني ذي الخمس سنوات ، كان لا يتخلف عن الصلاة ، فالجائزة و الحصالة و خشخشة النقود فيها كان يغريه .
و مع مرور الأيام ، أصبحت الصلاة جزء لا يتجزأ من تفكيرهم ، و عادة اعتادوها دون تفكير ، و كان الحصالة تمتلئ ، كل يوم أكثر فأكثر .
و كنت كل عامين أبدل النقود ، بقطعة ذهبية ، حتى لا يخطر ببال أحدهم أن يصرف من النقود .
و مع مرور الأيام وصل أبني الأكبر إلى سن السادسة و العشرون ، و كان اليوم المرتقب بالنسبة له فهو من الآن سيكون حر التصرف بالنقود ، و طبعاً كان هو أيضاً يضع فيها جزء من أجرته التي يأخذها ببعض الأعمال التي عمل بها ، بالإضافة لدراسته .
و كانت الحيرة الكبيرة ماذا يفعل بالنقود ، و كان اقتراحه جد رائع .
فقد طرح فكرة أن يأخذ نقود أخوته و يدخل بها بمشروع ، يقومون الثلاثة بإدارته … و فعلاً وجد مشروع جيد و بدأ بتنفيذه … و أصبح هذا المشروع يكبر يوماً بعد يوم ، و خصوصاً أن قلوب الأخوة الثلاثة كانت كلها مجتمعة في بوتقة واحدة … و أن هذه النقود هي بسبب صلواتهم … و رضا الله و رضا والديهم عليهم … فكانت كل البركة فيها … و أصبح هذا المشروع يدر الأرباح الطائلة و كنت أراقب عن كثب و أدعمهم بنصحي و إرشادي …
و من ثمار هذا المشروع و أرباحه بقي المبلغ كما هو ، أو ربما زاد و من الأرباح فقط اشترى كل منهم بيت ، و تزوج اثنان منهم و ها هو الأخير على وشك الزواج … ربنا يكملها معهم في هذه الصفقة …
أفقت من شرود أفكاري ، و تـأملت هذه الذكريات ، و هذه الأيام ، و قلت في نفسي ، هل من المعقول أن يكون هذا ؟ مبلغ علبة السجائر و تخطيط سليم ، و تقوى إلى الله ، و إرشادات فعلت كل هذه الأشياء … سبحان الله … الذي أعطانا هذا العقل ؟ لكي نوجه كل ما حولنا لمصلحتنا و نستفيد منه …
خطوت عدة خطوات إلى طاولتي و فتحت الدرج ، كانت علبة السجائر مازالت قابعة في تلك الزاوية منذ أكثر من عشرين عاماً ، تناولتها … اصفرار في أوراقها البيضاء و ألوان باهتة على الغلاف ؟ و سألت نفسي هل أعود للتدخين ؟ فها هي كل أحلام أولادي تحققت ؟ و السبب الذي تركت التدخين لأجله زال ؟ أ أعود للتدخين مجدداً …
م/ن
ودي
<
<
جود الدلوعة