في سكون الليل وهدوئه تصفو الروح، وترق المشاعر، وتحلو المناجاة، حين يقبل العبد على مولاه؛ قال بعض العلماء: "ليس في الدنيا وقت يشبه نعيم أهل الجنة، إلا ما يجده أهل التملق في قلوبهم بالليل من حلاوة المناجاة"، والذائق لطعم المناجاة يجد الأنس والقرب في الصلاة.
ويبين أبو سليمان الداراني هذا الشعور بقوله: "أهل الليل بليلهم ألذ من أهل اللهو بلهوهم، ولولا الليل ما أحببت البقاء في الدنيا، ولو لم يعط الله – تعالى – أهل الليل في ثواب صلاتهم إلا ما يجدون من اللذة فيها، لكان الذي أعطاهم أفضل من صلاتهم".
وهذه اللذة لا يشعر بها إلا من جربها؛ ففي هذا الوقت من الليل يكون الهواء أكثر نقاءً، والجو أكثر صفاءً، والنسيم العليل يملأ الدنيا بعبيره، والسكون والهدوء يغمر الكون؛ فتشعر كأنك في عالم آخر، غير عالمنا الذي نعيش فيه، وكأن الدنيا كلها تستعد وتتزين لنزول رب العزة – سبحانه وتعالى – إلى سمائنا الدنيا، في الثلث الأخير من الليل؛ فلا تضيع على نفسك هذه اللذة، ولا تلك المتعة، وسارع إلى مناجاة الله – عز وجل – ودعائه في السَّحَر؛ لتفوز بالإجابة والغفران.
كان الفُضَيْل بنُ عياض – رضي الله عنه – يقول: "إذا غربتِ الشمس، فرحتُ بالظَّلام؛ كي ينام النّاس؛ فأخْلُو بالله، عزّ وجلّ".
وعندما سُئِل الحسنُ البصريُّ – رضي الله عنه -: "لماذا المجتهدون بالليل أجملُ النَّاس وجوهاً"؟ قال: "لأنهم خَلَوْا بالرحمن؛ فألبسهم الله من نوره".
وقيام الليل ليس هدفاً لذاته، وما يفعل الله بسهر العبد؟ لكنه وسيلة إلى ذكر الله، والتبتل إليه، والتوكل عليه، وإيجاد الفرد المسلم الأمين، والمجتمع الراشد.
ولقد حبب الله – عز وجل – إلى رسوله الخلاء في غار حراء، في فترة الإعداد لتلقى الرسالة؛ لضرورة هذا الأمر للدعاة إلى الله؛ فلابد لهم من فترات يخلون فيها مع أنفسهم، ويتزودون بما يعينهم على هذا الأمر؛ فالروح تحتاج إلى خلوة بعض الوقت، وانقطاع عن شواغل الأرض، وضجة الحياة، وهموم الناس؛ فلابد من فترة للتأمل والتدبر، والتعامل مع الكون الكبير وحقائقه.
وقيام الليل عبادة تصل القلب بالله – تعالى – وتجعله قادراً على التغلب على مغريات الحياة الفانية، وعلى مجاهدة النفس، في وقت هدأت فيه الأصوات، ونامت العيون وتقلب النّوام على الفرش.
لذا؛ كان قيام الليل من مقاييس العزيمة الصادقة، وسمات النفوس الكبيرة، وقد مدح الله عباده، وميزهم عن غيرهم بقوله تعالى: {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاء اللَّيْلِ سَاجِداً وَقَائِماً يَحْذَرُ الآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الأَلْبَابِ} [الزمر:9].
وقيام الليل سنة مؤكَّدة، حث النبي – صلى الله عليه وسلم – على أدائها بقوله: ((عليكم بقيام الليل؛ فإنه دأب الصالحين قبلكم، ومقربة إلى ربكم، وتكفير للسيئات، ومنهاة عن الإثم، ومطردة للداء عن الجسد))؛ رواه الترمذي وأحمد.
وفي الحديث عن النبي – صلى الله عليه وسلم – أنه قال: ((أفضل الصلاة بعد المكتوبة قيام الليل))، وقد حافظ – صلى الله عليه وسلم – على قيام الليل، ولم يتركه سفراً ولا حضراً، وقام – صلى الله عليه وسلم – وهو سيد ولد آدم المغفور له ما تقدم من ذنبه وما تأخر – حتى تفطّرت قدماه؛ فقيل له في ذلك؛ فقال:
((أفلا أكون عبداً شكوراً))؛ متفق عليه.
حلاوة ولذة
الذين جربوا لذة قيام الليل يُؤْثرون لقاء الله على الراحة، بل ويصل بهم الحد إلى هجر المضاجع ومجافاتها؛ لأن هناك ما هو أحب وأعظم؛ يقولُ تعالَى: {إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّداً وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُون * تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ} [السجدة:16]، أي: يخاصمون مواضع نومهم، ويُقْبلون على عبادة ربهم بقيام الليل.
وقد كان الصحابة في عهد النبي – صلى الله عليه وسلم – يحبّون قيام الليل، ويفضّلون الموت على ترك القيام؛ فقد طلب النبي – صلى الله عليه وسلم – من عبَّادِ بنِ بِشْرٍ – رضي الله عنه – أن يتولَّى حراسة المسلمين في إحدى المعارك؛ فأخذ يقوم الليل، وأثناء حراسته جاء أحد الأعداء؛ فضربه بسهم وقع في كتفه؛ فأخرج السّهم، وأكمل الصلاة؛ فضربه الرجل بسهم آخر؛ وقع في كتفِهِ؛ فأخرجَهُ وأكْمَل صلاته؛ فضُرِب بسهم ثالث؛ فأخرجه وركع وسجد وسلّم، ثم أيقظ أحد الصحابة؛ فقال له: لِمَ لَمْ توقظْنِي؟ فقال له: كنتُ في ركعتين، وكنت في قراءة لسورة مِن سور القرآن، لئن أقرؤُها أحبُّ إلَيَّ منْ خروج رُوحي.
وكان هناك غلام صالح يقوم الليل كله، وعندما سئل: مَا الَّذي يدفعكَ إلى ذلك؟ قال: إذا ذُكِرَتِ النَّارُ، اشتدَّ خوفِي، وإذا ذُكِرت الجنة، اشتدَّ شوقي، فلا أقدِر أنْ أنام.
الصحابي الجليل أنس بن مالك – رضي الله عنه – الذي كان يقَسِّمُ الليل؛ فيقوم الثلث الأول من الليل، ثم يوقظ زوجته؛ فتقوم الثلث الثاني، ثم توقظ الأمُّ ابنتَهما؛ فتقوم الثلث الأخير، وفي الليلة التالية، تقوم الأم الثلث الأول، ثم توقظ أنساً؛ ليقوم الثلث الثاني، ثمَّ يوقظ ابنته؛ لتقوم الثلث الأخير، وهكذا كان بيت أنس يحظى بشرف قيام الليل كاملاً، فيا لها من منزلة عظيمة! ويا له من شرف كبير!
وهذه جارية للحسن البصري – رضي الله عنه – عندما باعها رجعت إليه تقول: "يا مولاي، رُدَّني؛ لقد بعتَنِي إلى قوم لا يقومون الليل، ولا يصلون إلا الصلواتِ الخمس".
وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يكثر من قيام الليل؛ حتى إن قيام الليل ترك أثراً واضحاً في ملامحه؛ فكثرة البكاء بين يدي الله في القيام؛ ترك خطين أسودين في وجهه، ومن أقواله: "لم يبق مِن حلاوةِ الدنيا إلا ثلاثة أشياء: قيام الليل، ولقاء الإخوان، والصلاة في جماعة". وكذلك ابن مسعود – رضي الله عنه – كان إذا هدأت العيون، يُسمع له دويٌّ كدويِّ النَّحْلِ، وهو يصلِّي.
وهذا أبو هريرة – رضي الله عنه – كان هو وامرأته وخادمه يقسمون الليل ثلاثاً، يصلي هذا، ثم يوقظ هذا. فالليل كله صلاة ومناجاة، ودموع وخشوع، وذكر وشكر، والشعار: "لا للفرش الوثيرة، والنوم اللذيذ".
ولله در الفضيل بن عياض، وهو يعرض وضعاً شعورياً إيمانياً بديعاً؛ حيث يقول: "أدركت أقواماً يستحيون من الله في سواد هذا الليل من طول الهجعة، إنما هو على الجنب؛ فإذا تحرك قال: ليس هذا لكِ، قومي خذي حظكِ من الآخرة".
ولا تنس أنهم كانوا بذلك التعب يتلذذون، وبالقيام يفرحون، وبعيون غير أعيننا إلى الليل ينظرون؛ فهو عندهم موطن تنتعش فيه الأرواح، وتبتهج وترتاح، وتتقلب بين مسرات وأفراح، وتكثر من المساءلة والإلحاح، فهي قائمة بين يدي خالقها، عاكفة على مناجاة بارئها، تتنسم من تلك النفحات، وتقتبس من أنوار تلك القربات، وما يَرِدُ عليها في تلك المقامات؛ ولذا جاءت وصاياهم وقد عملوا، وتذكيرهم وقد اعتبروا، وحثهم وقد سبقوا، فها هو الحسن ينادي بكم قائلاً: "كابِدوا الليل، ومدوا الصلاة إلى السحر، ثم اجلسوا في الدعاء والاستكانة والاستغفار".
وقال أبو محمد الجريري: "قصدتُ الجنيد؛ فوجدتُه يصلي؛ فأطال جداً، فلما فرغ قلتُ: قد كبرتَ، وَوَهَنَ عَظْمُكَ، ورق جلدكَ، وضعفتْ قوتكَ، ولو اقتصرتَ على بعض صلاتك؛ فقال: اسكت، طريق عرفنا به ربنا، لا ينبغي لنا أن نقتصر منه على بعضه، والنفس ما حملتها تتحمل، والصلاة صلة، والسجود قربة؛ ولهذا قال تعالى: {وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ} [العلق:19]، ومن ترك طريق القرب، يوشك أن يُسلَك به طريق البعد".
ثمار وفوائد
ذَكَر القرآن صفات عباد الرحمن، ومنها قيام الليل، فهل تحب أن تكون من هؤلاء: {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْناً وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلاماً * وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَقِيَاماً} [الفرقان:63].
فقيام الليل ينقي القلب ويطهره، ويملأه بحب الطاعة، ومن يستحضر عظمة الله في تلك اللحظات، يجد أن الدنيا كلها هينة ضئيلة في عينيه؛ فأنت تترك كل الدنيا وتناجي مالكها؛ فيكون هذا دافعاً للخشوع في الصلاة، والإخلاص.
يقول ابن القيِّم: "إن الرجلين ليقاما في الصف، خلف نفس الإمام، وبين صلاتهما كما بين السَّماء والأرض. وذلك أنَّ قلب أحدهما تعدَّدتْ أمامه الصُّورُ، في حين قلب الآخر لا يبصر غير الله وطاعته، عز وجل".
وقف أبو ذر – رضي الله عنه – ذات يوم أمام الكعبة، وقال لأصحابه: "أليس إذا أراد أحدكم سفراً يستعدّ له بزاد؟ قالوا: نعم. قال: فسفر الآخرة أبعد مما تسافرون. فقالُوا: دُلَّنَا على زادِهِ. فقال: حجوا لعظائم الأمور، وصلوا ركعتين في ظلمة الليل؛ لوحشة القبور، وصومُوا يوماً شديداً حَرُّه؛ لطول يوم النّشور".
وعن أبي الدَّرداء، أنَّ النَّبيّ – صلى الله عليه وسلم – قال: ((ثلاثةٌ يحبُّهمُ اللهُ، ويضحكُ إليهمْ، ويستبشرُ بِهِمْ: الذِي إذَا انكشفتْ فئةٌ، قاتلَ وراءَهَا بنفسِهِ للهِ – عز وجل – فإمَّا أنْ يُقتَلَ، وإمَّا أنْ ينصرَهُ الله – عز وجلّ – ويكفيهِ؛ فيقولُ: انظُرُوا إلَى عبدِي هذَا كيفَ صبرَ لِي بنفسِهِ، الَّذِي لهُ امرأةٌ حَسَنَةٌ وفِرَاشٌ لَيِّنٌ حَسَنٌ؛ فيقومُ مِنَ اللَّيلِ فيقولُ: يَذَرُ (يترك) شهوتَهُ ويذكُرُنِي، ولوْ شاءَ رَقَدَ (نام). والَّذِي إذَا كانَ فِي سفرٍ، وكانَ معهُ ركبٌ فسهرُوا ثُمَّ هَجَعُوا؛ فقامَ في السَّحَرِ فِي ضَرَّاءَ وسَرَّاءَ)).
قال رسولُ اللهِ – صلى الله عليه وسلم -: ((أقربُ مَا يكونُ العبدُ من الرَّبِّ، في جوفِ اللَّيلِ الأخيرِ؛ فإنِ استطعتَ أنْ تكونَ مِمَّنْ يذكرُ اللهَ فِي تلكَ السَّاعةِ، فكُنْ))؛ الترمذي والنسائي.
وقد أوصى رسول الله – صلى الله عليه وسلم – بقيام الليل؛ فقال: ((أيُّها النَّاسُ أفشُوا السَّلام، وأطعمُوا الطَّعام، وصِلُوا الأرحامَ، وصَلُّوا باللَّيلِ والنَّاسُ نِيَامٌ؛ تدخلُوا الجنةَ بسلامٍ))؛ الحاكم وابن ماجه والترمذي.
وقيام الليل يطرد الغفلة عن القلب؛ كما جاء في حديث عبد الله بن عمرو بن العاص – رضي الله عنهما – أن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: ((من قام بعشر آيات، لم يكتب من الغافلين، ومن قام بمائة آية، كتب من القانتين، ومن قام بألف آية، كتب من المقنطرين))؛ رواه أبوداود وابن حبان.
قال يحى بن معاذ: "دواء القلب خمسة أشياء: قراءة القرآن بالتفكر، وخلاء البطن، وقيام الليل، والتضرع عند السحر، ومجالسة الصالحين".
الإعجاز العلمي في قيام الليل
جاء في كتاب: "الوصفات المنزلية المجربة وأسرار الشفاء الطبيعية" لمجموعة من المؤلفين الأمريكيين، أن القيام من الفراش أثناء الليل، والحركة البسيطة داخل المنزل، والقيام ببعض التمرينات الرياضية الخفيفة، وتدليك الأطراف بالماء، والتنفس بعمق – له فوائد صحية عديدة.
والمتأمل لهذه النصائح، يجد أنها تماثل تماماً حركات الوضوء والصلاة عند قيام الليل، وقد سبق النبي – صلى الله عليه وسلم – كل هذه الأبحاث في الإشارة المعجزة إلى قيام الليل؛ فقال: ((عليكم بقيام الليل، فإنه دأب الصالحين قبلكم، وقربة إلى الله – عز وجل – ومنهاة عن الإثم، وتكفير للسيئات، ومطردة للداء من الجسد)).
وعن كيفية قيام الليل بطرد الداء من الجسد يقول الدكتور: "صلاح أحمد حسين" أستاذ الطب بجامعة أسيوط:
– "يؤدي قيام الليل إلى تقليل إفراز هرمون الكورتيزون (وهو الكورتيزون الطبيعي للجسد)، خصوصاً قبل الاستيقاظ بعدة ساعات، وهو ما يتوافق زمنياً مع وقت السحر(الثلث الأخير من الليل)؛ مما يقي من الزيادة المفاجئة في مستوي سكر الدم، الذي يمثل خطورة على مرضى السكر، ويقلل كذلك من الارتفاع المفاجئ في ضغط الدم، ويقي من السكتة المخية والأزمات القلبية في المرضى المعرضين لذلك.
– يقلل قيام الليل من مخاطر تخثر الدم في وريد العين الشبكي؛ الذي يحدث نتيجة لبطء سريان الدم في أثناء النوم، وزيادة لزوجة الدم بسبب قلة تناول السوائل، أو زيادة فقدانها، أو بسبب السمنة المفرطة وصعوبة التنفس؛ مما يعوق ارتجاع الدم الوريدي من الرأس.
– يؤدي قيام الليل إلى تحسن وليونة عند مرضى التهاب المفاصل المختلفة، سواء كانت روماتيزمية أو غيرها؛ نتيجة الحركة الخفيفة والتدليك بالماء عند الوضوء.
– قيام الليل علاج ناجح لما يعرف باسم: "مرض الإجهاد الزمني"؛ لما يوفره قيام الليل من انتظام في الحركة ما بين الجهد البسيط والمتوسط، الذي ثبتت فاعليته في علاج هذا المرض.
– يؤدي قيام الليل إلى تخلص الجسد مما يسمي بـ "الجليسيرات الثلاثية": وهي نوع من الدهون التي تتراكم في الدم، خصوصاً بعد تناول العشاء المحتوي على نسبة عالية من الدهون، التي تزيد من مخاطر الإصابة بأمراض شرايين القلب التاجية، بنسبة 32% في هؤلاء المرضى مقارنة بغيرهم.
– يقلل قيام الليل من خطر الوفيات بجميع الأسباب، خصوصاً الوفاة الناتجة عن السكتة القلبية، والدماغية، وبعض أنواع السرطان.
– يقلل قيام الليل من مخاطر الموت المفاجئ بسبب اضطراب ضربات القلب؛ لما يصاحبه من تنفس هواء نقي، خال من ملوثات النهار، وأهمها عوادم السيارات، ومسببات الحساسية.
– قيام الليل ينشط الذاكرة، وينبه وظائف المخ الذهنية المختلفة؛ لما فيه من قراءة وتدبر للقرآن، وذكر للأدعية، واسترجاع لأذكار الصباح والمساء؛ فيقي من أمراض: الزهايمر، وخرف الشيخوخة، والاكتئاب، وغيرها، وكذلك يؤدي قيام الليل إلى التخفيف من مرض طنين الأذن، الذي يحدث لأسباب غير معروفه".
حكم قيام الليل
كان قيام الليل فرضاً في أوَّل الأمر، حين قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ * قُمِ اللَّيْلَ إِلاَّ قَلِيلاً * نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً * أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآَنَ تَرْتِيلاً} [المزمل:1-4]، ثمَّ نُسِخ هذا الفرض إلى الندب بقوله تعالى: {إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآَنِ عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى وَآَخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآَخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [المزمل:20].
يقول الإمام القرطبي: "وكان الرجل لا يدري متى نصف الليل من ثلثه؛ فيقوم حتى يصبح؛ مخافة أن يخطئ؛ فانتفخت أقدامهم، وانتقعت ألوانهم؛ فرحمهم الله وخفَّف عنهم". لأجل ذلك، خفَّف الله على المسلمين؛ رحمةً بهم، ولم يجعل القيام فرضاً، بل ندب إليه، وحثَّ عليه.
وقد ارتبط قيام الليل في أذهان الناس بشهر رمضان؛ نظراً لأنَّ رمضان هو شهر الصيام والقيام، ويتأكَّد هذا القيام في العشر الأواخر؛ حيث الاعتكاف والتهجُّد، ومسألة ارتباط القيام في أذهان الناس برمضان نابعةٌ من تقصير المسلمين – في غير رمضان – في القيام بهذه العبادة، واغتنام دقائق الليل الغالية؛ ولذلك غدا قيام الليل له مناسبةٌ، هي حلول شهر رمضان.
وهذا – بالطبع – ليس هو الأصل، فربُّ رمضان الذي نقوم له فيه هو ربُّ الشهور الأخرى، وهو – سبحانه – الذي ينزل كلَّ ليلةٍ في ثلثها الأخير؛ ليقول: ((من يدعوني فأستجيب له؟ ومن يسألني فأعطيه؟ ومن يستغفرني فأغفر له))؛ كما ثبت في الحديث المتَّفق عليه.
أسباب معينة على قيام الليل
فضيلة الشيخ محمد صالح المنجد يقول: هناك أسباب معينة على قيام الليل منها:
1- الإخلاص لله تعالى: فكلما قوي إخلاص العبد، كان أكثر توفيقاً إلى الطاعات والقربات؛ فالمعونة من الله تنزل على العباد على قدر هممهم ونياتهم ورغبتهم ورهبتهم، والخذلان ينزل عليهم على حسب ذلك؛ ولذا حرص السلف الكرام أشد الحرص على إخفاء الطاعات، كقيام الليل؛ سأل رجلٌ تميمَ بن أوس الداري – رضي الله عنه – فقال له: "كيف صلاتك بالليل؟ فغضب غضباً شديداً، ثم قال: والله لركعة أصليها في جوف الليل في السر، أحب إلي من أن أصلي الليل كله، ثم أقصه على الناس".
2- أن يستشعر مريد قيام الليل أن الله تعالى يدعوه للقيام: فإذا استشعر العبد أن مولاه يدعوه لذلك – وهو الغني عن طاعة الناس جميعاً – كان ذلك أدعى للاستجابة.
3 – معرفة فضل قيام الليل: فمن عرف فضل هذه العبادة، حرص على مناجاة الله تعالى، والوقوف بين يديه في ذلك الوقت.
4-النظر في حال السَّلف والصالحين في قيام الليل، ومدى لزومهم له: فقد كان السلف يتلذذون بقيام الليل، ويفرحون به أشد الفرح؛ قال عبد الله بن وهب: "كل ملذوذ إنما له لذة واحدة، إلا العبادة؛ فإن لها ثلاث لذات: إذا كنت فيها، وإذا تذكّرتها، وإذا أعطيت ثوابها". وقال ثابت البناني: "ما شيء أجده في قلبي ألذّ عندي من قيام الليل".
5- النوم على الجانب الأيمن: وقد كان النبي – صلى الله عليه وسلم – يرشد أمته إلى النوم على الجانب الأيمن؛ فعن حفصة – رضي الله عنها – قالت: ((كان النبي – صلى الله عليه وسلم – إذا أخذ مضجعه، جعل يده اليمنى تحت خده الأيمن))؛ رواه الطبراني.
قال الإمام ابن القيم – رحمه الله -: "وفي اضطجاعه – صلى الله عليه وسلم – على شقه الأيمن سر؛ وهو أن القلب معلّق في الجانب الأيسر؛ فإذا نام على شقه الأيسر، استثقل نوماً؛ لأنه يكون في دعة واستراحة؛ فيثقل نومه، فإذا نام على شقه الأيمن، فإنه يقلق، ولا يستغرق في النوم؛ لقلق القلب، وَطَلَبِهِ مُسْتَقَرّهُ، وميله إليه".
6-النوم على طهارة فقد قال النبي -صلى الله عليه وسلم -: ((إذا أتيت مضجعك، فتوضأ وضوءك للصلاة))؛ متفق عليه، وجاء من حديث ابن عباس – رضي الله عنهما – أن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: ((طهّروا هذه الأجساد؛ طهركم الله؛ فإنه ليس عبد يبيت طاهراً إلا بات معه في شعاره ملك، لا يتقلب ساعة من الليل إلا قال: اللهم اغفر لعبدك؛ فإنه بات طاهراً))؛ رواه الطبراني.
7- التبكير بالنوم: النوم بعد العشاء – مبكراً – وصية نبوية، وخصلة حميدة، وعادة صحية؛ ومما جاء في فضله حديث أبي برزة الأسلمي – رضي الله عنه – قال: ((إن النبي – صلى الله عليه وسلم – كان يستحب أن يؤخر العشاء، وكان يكره النوم قبلها، والحديث بعدها))؛ رواه البخاري، وقال ابن رافع: كان عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – ينِشّ الناس بدِرّته بعد العتمة، ويقول: قوموا؛ لعل الله يرزقكم صلاة.
8- المحافظة على الأذكار قبل النوم: فإن هذه الأذكار حصن حصين،؛ يقي بإذن الله من الشيطان، ويعين على القيام، ومن هذه الأذكار، ما ثبت من حديث أبي هريرة – رضي الله عنه – أن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: ((إذا أوى أحدكم إلى فراشه، فلينفضه بداخلة إزاره؛ فإنه لا يدري ما خلّفه عليه، ثم ليضطجع على شقّه الأيمن، ثم ليقل: باسمك ربي وضعت جنبي، وبك أرفعه، إن أمسكت نفسي، فارحمها، وإن أرسلتها، فاحفظها بما تحفظ به عبادك الصالحين))؛ متفق عليه.
وينبغي كذلك أن يحافظ المسلم على الأذكار الشرعية عند الاستيقاظ، ومنها: ما ثبت من حديث أبي هريرة – رضي الله عنه – أن النبي – صلى الله عليه – وسلم قال: ((إذا استيقظ أحدكم، فليقل: الحمد لله الذي رد علي روحي، وعافاني في جسدي، وأذن لي بذكره))؛ رواه الترمذي والنسائي.
9-الحرص على نومة القيلولة بالنهار – وهي إما قبل الظهر أو بعده – فعن أنس – رضي الله عنه – أن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: ((قيلوا فإن الشياطين لا تقيل))؛ رواه الطبراني، وقال إسحاق بن عبدالله: القائلة من عمل أهل الخير، وهي مجمة للفؤاد مَقْواة على قيام الليل. ومرّ الحسن البصري بقوم في السوق في وسط النهار؛ فرأى صخبهم وضجيجهم؛ فقال: "أما يقيل هؤلاء؟! فقيل له: لا. فقال: إني لأرى ليلهم ليل سوء".
10- اجتناب كثرة الأكل والشرب: فإن الإكثار منهما من العوائق العظيمة التي تصرف المرء عن قيام الليل، قال سفيان الثوري: "عليكم بقلة الأكل؛ تملكوا قيام الليل". ورأى معقل بن حبيب قوماً يأكلون كثيراً؛ فقال: "ما نرى أصحابنا يريدون أن يصلوا الليلة". وقال وهب بن منبه: "ليس من بني آدم أحب إلى شيطانه من الأكول النوام".
11- مجاهدة النفس على القيام: وهذا من أعظم الوسائل المعينة على قيام الليل؛ لأن النفس البشرية – بطبيعتها – أمارة بالسوء، تميل إلى كل شر ومنكر؛ فمن أطاعها فيما تدعوا إليه، قادته إلى الهلاك والعطب، وقد أمرنا الله – تعالى – بالمجاهدة فقال: {وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ} [الحج:78] وقال سبحانه: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} [العنكبوت:69].
وعن فضالة بن عبيد – رضي الله عنه – أن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: ((المجاهد من جاهد نفسه في الله))؛ رواه الترمذي وابن حبان. وفي حديث عقبة بن عامر – رضي الله عنه – أن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: ((الرجل من أمتي يقوم من الليل يعالج نفسه إلى الطهور وعليه عُقَد، فإذا وضأ يديه، انحلت عقدة، وإذا وضأ وجهه، انحلت عقدة، وإذا مسح رأسه، انحلت عقدة، وإذا وضأ رجليه، انحلت عقدة؛ فيقول الله – عز وجل – للذين من وراء الحجاب: انظروا إلى عبدي هذا؛ يعالج نفسه، ويسألني، ما سألني عبدي فهو له))؛ رواه أحمد وابن حبان
12-اجتناب الذنوب والمعاصي: فإذا أراد المسلم أن يكون مما ينال شرف مناجاة الله تعالى، والأنس بذكره في ظلم الليل، فليحذر الذنوب؛ فإنه لا يُوفّق لقيام الليل من تلطخ بأدران المعاصي؛ قال رجل لإبراهيم بن أدهم: "إني لا أقدر على قيام الليل؛ فصف لي دواء؟ فقال: لا تعصه بالنهار؛ وهو يُقيمك بين يديه في الليل؛ فإن وقوفك بين يديه في الليل من أعظم الشرف، والعاصي لا يستحق ذلك الشرف".
وقال رجل للحسن البصري: "يا أبا سعيد: إني أبِيت معافى، وأحب قيام الليل، وأعِدّ طهوري، فما بالي لا أقوم؟ فقال الحسن: ذنوبك قيدتْك". وقال – رحمه الله -: "إن العبد ليذنب الذنب؛ فيحرم به قيام الليل، وصيام النهار". وقال الفضيل بن عياض: "إذا لم تقدر على قيام الليل، وصيام النهار، فاعلم أنك محروم مكبّل، كبلتك خطيئتك".
اتق الله حيث ماكنت
فإن لم تكن تراه فإنه يــراك
وخالق الناس بخلق حسن
وذكر الله آناء الليل وأطراف النهار