ولذلك أحببت أن أشارك في هذا المدونة الرائع مدونة البرونزية بعض القصص من كتاب الزمن القادم للأستاذ عبدالملك القاسم إسهاما مني ولو بالقليل أملا أن تجد لديكم قبولا واستحساناً راجيةً من الله العون والتوفيق .
تبحث عنها تجدها في مصلاها .. راكعة ساجدة رافعة يديها إلى السماء .. هكذا في الصباح وفي المساء وفي جوف الليل لا تفتر ولا تمل ..
كنت كنت أحرص على قراءة المجلات الفنية والكتب ذات الطابع القصصي .. أشاهد الفيديو بكثرة لدرجة أنني عرفت به .. ومن أكثر من شئ عرف به .. لا أؤدَي واجباتي كاملة ولست منضبطة في صلواتي ..
بعد أن أغلقت جهاز الفيديو وقد شاهدت أفلاما متنوعة لمدة ثلاث ساعات متواصلة .. ها هو يرتفع الأذان من المسجد المجاور ..
* عدت إلى فراشي ..
تناديني أختي من مصلاها .. نعم ماذا تريدين يا نورة ؟
قالت لي بنبرة حادة : لا تنامي قبل أن تصلي الفجر ..
أوه بقى ساعة على صلاة الفجر وما سمعتيه كان الأذان الأول ..
بنبرتها الحنونة – هكذا هي حتى بعد أن يصيبها المرض الخبيث وتسقط طريحة الفراش .. نادتني .. تعالي بجانبي .. لا أستطيع إطلاقا رد طلبها .. تشعر بصفائها وصدقها .. لا شك طائعا ستلبي ..
ماذا تريدين ..
إجلسي ..
ها قد جلست ماذا لديك ..
بصوت عذب رحيم .. ( كل نفس ذائقة الموت وإنما توفون أجوركم يوم القيامة ) ..
سكتت برهة .. ثم سألتني ..
ألم تؤمني بالموت ؟
بل مؤمنة ..
ألم تؤمني بأنك ستحاسبين على كل صغير وكبيرة ..
بلى .. ولكن الله غفور رحيم .. والعمر طويل ..
يا أختي .. ألا تخافين من الموت وبغتته ..
انظري هند أصغر منك وتوفيت في حادث سيارة .. وفلانة .. وفلانة ..
الموت لا يعرف العمر .. وليس مقياسا له ..
أجبتها بصوت الخائف حيث مصلاها المُظلم ..
إنني أخاف من الظلام وأخفتيني من الموت .. كيف أنام الآن .. كنت أظن أنك وافقت للسفر معنا هذه الأجازة ..
فجأة .. تحشرج صوتها واهتز قلبي ..
لعلي هذه السنه أسافر سفرا بعيدا .. إلى مكان آخر .. ربما يا هناء .. الأعمار بيد الله .. وانفجرت بالبكاء ..
تفكرت في مرضها الخبيث وأن الأطباء أخبروا أبي سراً أن المرض ربما لن يهملها طويلا .. ولكن من أخبرها بذلك .. أم أنها توقعت هذا الشئ ..
ما لك تفكرين ؟ جاءني صوتها القوي هذه المرة .. ؟
هل تعتقدين أني أقول هذا لأنني مريضه ؟
كلا .. ربما أكون أطول عمرا من الأصحاء ..
وأنتي إلى متى ستعيشين .. ربما عشرون سنة .. ربما أربعون .. ثم ماذا .. لمعت يدها في الظلام وهزتها بقوة ..
لا فرق بيننا كلنا سنرحل ونغادر هذه الدنيا أما إلى الجنه أو إلى النار .. ألم تسمعي قول الله ( فمن زحزح عن النار وأدخل الجنة فقد فاز ) ؟
تصبحين على خير ..
هرولت مسرعه وصوتها يطرق أذني .. هداك الله .. لا تنسي الصلاة ..
الثامنة صباحا ..
أسمع طرقا على الباب .. هذا ليس موعد استيقاظي .. بكاء .. وأصوات .. يا إلهي ماذا جرى ..
لقد ترددت حالة نورة .. وذهب بها أبي إلى المستشفى .. إنَا لله وإنَا إليه راجعون ..
لا سفر هذه السـنه .. مكتوب علي البقاء هذه السنه في بيتنا .
بعد إنتظار طويل ..
عند الساعة الواحدة ظهرا .. هاتفنا أبي من المستشفى .. تستطيعون زيارتها الآن هيا بسرعـه ..
أخبرتني أمي أن حديث أبي غير مطمئن وأن صوته متغير .. عباءتي في يدي ..
أين السائق .. ركبنا على عجل .. أين الطريق الذي كنت أذهب لأتمشى مع السائق فيه يبدو قصيرا .. ما له اليوم طويل .. وطويل جدا .. أين ذلك الزحام المحبب إلى نفسي كي التفت يمنة ويسرة .. زحام أصبح قاتلا ومملاً ..
أمي بجواري تدعو لها .. أنها بنت صالحة ومطيعة .. لم أرها تضيع وقتها أبداً ..
دلفنا من الباب الخارجي للمستشفى ..
هذا مريض يتأوه .. وهذا مصاب بحادث سيارة .. وثالث عيناه غائرتان .. لا تدري هل هو من أهل الدنيا أم من أهل الآخرة .. منظر عجيب لم أره من قبل ..
صعدنا درجات السلم بسرعة ..
إنها في العناية المركزه .. وسآخذكم إليها .. ثم واصلت الممرضه إنها بنت طيبة وطمأنت أمي أنها في تحسن بعد الغيبوبة التي حصلت لها ..
ممنوع اللدخول لأكثر من شخص واحد ..
هذه هي غرفة العناية المركزه ..
وسط زحام الأطباء وعبر النافذة الصغيرة التي في باب الغرفة أرى عيني أختي نورة تنظر إلي وأمي واقفة بجوارها .. بعد دقيقتين خرجت أمي التي لم تستطيع إخفاء دموعها ..
سمحوا لي بالدخول والسلام عليها بشرط أن لا أتحدث معها كثيرا .. دقيقتين كافية لك ..
كيف حالك يا نورة ..
لقد كنت بخير مساء البارحة .. ماذا جرى لك ..
أجابتني بعد أن ضغطت على يدي : وأنا الآن ولله الحمد بخير ..
الحمد لله ولكن يدك باردة ..
كنت جالسة في حافة السرير ولامست ساقها .. أبعدته عني .. آسفه إذا ضايقتك .. كلا ولكني تفكرت في قول الله تعالى : ( والتفت الساق بالساق إلى ربك يومئذ المساق ) عليك يا هناء بالدعاء لي فربما استقبل عن قريب أول أيام الآخرة ..
سفري بعيد وزادي قليل .
سقطت دمعه من عيني بعد أن سمعت ما قالت وبكيت لم أعِ أين أنا ..
استمرت عيناي في البكاء .. أصبح أبي خائفا عليَ أكثر من نورة .. لم يتعودوا هذا البكاء والانطواء في غرفتي ..
* مع غروب شمس ذلك اليوم في بيتنا ..
ساد صمت طويل في بيتنا ..
دخلت عليَ ابنة خالتي .. ثم ابنة عمتي ..
أحداث سريعة ..
كثر القادمون .. اختلطت الأصوات .. شئ واحد عرفته .. نورة ماتت .
لفم أعد أُميز من جاء .. ولا أعرف ماذا قالو ..
يا الله .. أين أنا وماذا يجري .. عجزت حتى عن البكاء .. فيما بعد أخبروني أن أبي أخذ بيدي لوداع أختي الوداع الأخير .. وأني قبلتها .. لم أعد أتذكر إلا شيئا واحدا .. حين نظرت إليها مسجاه .. على فراش الموت .. تذكرت قولها ( والتفت الساق بالساق ) عرفت حقيقة أن ( إلى ربك يومئذ المساق ) .
لم أعرف أنني عدت إلى مصلاها إلا تلك الليلة ..
وحينها تذكرت من قاسمتني رحم أمي فنحن توأمين .. تذكرت من شاركتني همومي .. تذكرت من نفَست عني كربتي .. من دعت لي بالهداية .. من ذرفت دموعها ليالي طويلة وهي تحدثنهي عن الموت والحساب .. الله المستعان ..
هذه أول ليلة لها في قبرها .. اللهم ارحمها ونور لها قبرها .. هذا هو مصحفها .. وهذه هي سجادتها .. هذا .. وهذا .. بل هذا هو الفستان الوردي الذي قالت لي سأخبئه لزواجي ..
تذكرتها وبكيت على أيامي الضائعة .. بكيت بكاء متواصلاً .. ودعوت الله أن يرحمني ويتوب علىَ ويعفو عني .. دعوت الله أن يثبتها في قبرها كما كانت تحب أن تدعو ..
* فجأة سألت نفسي ماذا لو كانت الميتة أنا ؟ ما مصيري .. ؟
لم أبحث عن الإجابة من الخوف الذي أصابني .. بكيت بحرقة ..
الله أكبر .. الله أكبر .. ها هو أذان الفجر قد ارتفع .. ولكن ما أعذبه هذه المرة ..
أحسست بطمأنينة وراحة وأنا أردد ما يقوله المؤذن .. لفلفت ردائي وقمت واقفة أصلي صلاة الفجر .. صليت صلاة مودع ..
كما صلتها أختي من قبل وكانت آخر صلاة لها ..
إذا أصبحت لا أنتظر المساء ..
وإذا أمسيت لا أنتظر الصباح ..